فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَالشَّمْسِ وضحاها (1)}
القسم لتأكيد الخبر، والمقصود بالتأكيد هو ما في سَوق الخبر من التعريض بالتهديد والوعيد بالاستئصال.
والواوات الواقعة بعد الفواصل واوات قَسَم.
وكل من {الشمس}، و{القمر} و{السماء} و{الأرض}، ونفس الإِنسان، من أعظم مخلوقات الله ذاتاً ومعنىً الدالة على بديع حكمته وقويّ قدرته.
وكذلك كل من الضحى، وتُلو القمر الشمس والنهار، والليل من أدق النظام الذي جعله الله تعالى.
والضحى: وقتُ ارتفاع الشمس عن أفق مشرقها، وظهور شعاعها، وهو الوقت الذي ترتفع فيه الشمس متجاوزة مشرقها بمقدار ما يخيل للناظر أنه طول رُمح.
ومهد لذلك بالتنبيه على أن تزكية النفس سبب الفلاح، وأن التقصير في إصلاحها سبب الفجور والخسران.
والتلُوَّ: التبع وأريد به خَلف ضوئه في الليل ضوءَ الشمس، أي إذا ظهر بعد مغيبها فكأنه يتبعها في مكانها، وهذا تلو مجازي.
والقمر يتبع الشمس في أحوال كثيرة منها استهلاله، فالهلال يظهر للناظرين عقب غروب الشمس ثم يبقى كذلك ثلاث ليال، وهو أيضاً يَتلو الشمس حين يقارب الابتدارَ وحين يصير بدراً فإذا صار بدراً صار تُلوّه الشمسَ حقيقة لأنه يظهر عندما تغرب الشمس، وقريباً من غروبها قبله أو بعده، وهو أيضاً يضيء في أكثر ليالي الشهر جعله الله عوضاً عن الشمس في عدة ليال في الإِنارة، ولذلك قُيّد القسم بحين تلوه لأن تلوه للشمس حينئذ تظهر منه مظاهر التلوّ للناظرين، فهذا الزمان مثل زمان الضحى في القسم به، فكان بمنزلة قَسَم بوقت تُلوه الشمس، فحصل القسم بذات القمر وبتلوه الشمس.
وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس، أي من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر، وليس نيّراً بذاته، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن وهو مما أشرت إليه في المقدمة العاشرة.
وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإِسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكاً، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، واتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإِسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي.
ومناسبة استحضار السماء عقب ذكر الشمس والقمر، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل، واضحة، ثم ذكرت النفس الإنسانية لأنها مظهر الهدى والضلال وهو المقصود.
والضمير المؤنث في قوله: {جلاها} ظاهره أنه عائد إلى الشمس فمعنى تجلية النهار بالشمس وقت ظهور الشمس.
فإسناد التجلية إلى النهار مجاز عقلي والقَسَم إنما هو بالنهار لأنه حالة دالة على دقيق نظام العالم الأرضي.
وقيل: الضمير عائد إلى الأرض، أي أضاء الأرض فتجلت للناظرين لظهور المقصود كما يقال عند نزول المطر (أرسلت) يعنون أرسلت السماء ماءَها.
وقُيد القَسَم بالنهار بقيد وقت التجلية إدماجاً للمنة في القسم.
وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض، ولما في حالها وحال أضوائها من الإِيماء إلى أنها مثل لظهور الإِيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور فإن الكفر والمعاصي تُمثَّل بالظلمة والإِيمانَ والطاعات تُمثَّل بالضياء قال تعالى: {ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه} [المائدة: 16].
وأعقب القسَمُ بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقتَ النهار فهو وقت الإِظلام.
والغشي: التغطية وليس الليل بمغطّ للشمس على الحقيقة ولكنه مسبَّب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب وهو زمن لذلك الغشي.
فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زَمنه أو إلى مسببه (بفتح الباء).
والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تُجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية، وقيل: ضمير المؤنث في {يغشاها} عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في {والنهار إذا جلاها}.
و{إذا} في قوله: {إذا تلاها} وقوله: {إذا جلاها} وقوله: {إذا يغشاها} في محل نصب على الظرفية متعلقة بكَون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر، أي مقسماً بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدِها دلالة على عظيم صنع الله تعالى.
وبناء السماء تشبيهٌ لرفعها فوق الأرض بالبناء.
والسماء آفاق الكواكب قال تعالى: {لقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق} [المؤمنون: 17] وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيراً بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور.
وطَحْوُ الأرض: بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع، يقال: طحا يَطحو ويطحي طحواً وطَحْياً وهو مرادف (دحَا) في سورة النازعات (30).
و(النفس): ذات الإِنسان كما تقدم عند قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27] وتنكير (نفس) للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموماً بالقرينة على نحو قوله تعالى: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} [الانفطار: 5].
وتسوية النفس: خلقها سواء، أي غير متفاوتة الخَلْق، وتقدم في سورة الانفطار (7) عند قوله تعالى: {الذي خلقك فسواك}.
{ومَا} في المواضع الثلاثة من قوله: {وما بناها}، أو {ما طحاها}، {وما سواها}، إمّا مصدرية يؤوَّلُ الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعةُ السماء وطَحْوُهُ الأرض وتسويته الإِنسان.
وعطف {فألهمها فجورها وتقواها} على {سواها}، فهو مقسم به، وفعل (ألهمها) في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة {ما} المصدرية، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشئ عن التسوية، فضمير الرفع في (ألهمها) عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من {سواها} ويجوز أن تكون {ما} موصولة صادقة على فعل الله تعالى، وجملة {بناها} صلة الموصول، أي والبناءِ الذي بنَى السماء، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس.
فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإِلهام.
والإِلهام: مصدر ألهم، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجردَ منه مُمات والإِلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهداً له من كلام العرب.
ويطلق الإِلهام إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانياً كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية والنظرية.
وإيثار هذا الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإِنسان، قال الراغب: الإِلهام: إيقاع الشيء في الرُوع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وَجهة الملأ الأعلى. اهـ.
ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواجُ أمثال ذلك في اللغة قبل الإِسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب، وهو مشتق من اللّهْم وهو البلْع دَفعةً، يقال: لَهِم كفرح، وأما إطلاق الإِلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية.
والمعنى هنا: أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولىة والإِدراك الضروري المدرَّج ابتداء من الانسياق الجِبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يُكره، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام.
وتعدية الإِلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية، فلولا العقول لما تيسّر إفهامُ الإِنسان الفجور والتقوى، والعقابَ والثواب.
وتقديم الفجور على التقوى مراعىً فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ.
ومجيء فعل: (ألهمها) بصيغة الإِسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ {ما} إن جعلتَها موصولة.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها (10)}
يجوز أن تكون الجملة جواب القسم، وإن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخَيبة المشركين كما جُعل في سورة الليل (4، 5) جوابَ القسم قوله: {إن سعيكم لشتى فأما من أعطى} الخ.
ويجوز أن تكون جملةً معترضة بين القَسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى، أي أفلح من زكّى نفسه واتّبع ما ألهمه الله من التقوى، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإِدراك والإِرشاد الإلهي.
وهذه الجملة توطئة لجملة: {كذبت ثمود بطغواها} [الشمس: 11] فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دَسَّوا أنفسهم بالطغوى.
وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبته للتقوى، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية.
و{مَن} صادقة على الإِنسان، أي الذي زكى نفسه بأن اختار لها ما به كمالها ودفع الرذائل عنها، فالإِنسان والنفس شيء واحد، ونزلا منزلة شيئين باختلاف الإِرادة والاكتساب.
والتزكية: الزيادة من الخير.
ومعنى: {دساها} حال بينها وبين فعل الخير.
وأصل فعل دسّى: دسّ، إذا أدخل شيئاً تحت شيء فأخفاه، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلباً للتخفيف كما قالوا: تقضّى البازي أو تقضض، وقالوا: تظنيت، أي من الظن.
وإن كانت جملة {قد أفلح من زكاها} جواب القسم فجملة {كذبت ثمود بطغواها} [الشمس: 11] في موقع الدليل لمضمون جملة {وقد خاب من دساها} أي خاب كخيبة ثمود.
والفلاح: النجاح بحصول المطلوب، والخيبة ضده، أي أن يُحرم الطالب مما طلبه.
فالإِنسان يرغب في الملائم النافع، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال الدائمان، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح، والثاني يحصِّل نفعاً عارضاً زائلاً وكمالاً موقتاً ينقلب انحطاطاً فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة.
والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها.
وفي هذه الآيات مُحسّن الطباق غير مرّة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما، ومثل النهار والليل، والتجلية والغشي، والسماء والأرض، والبناء والطحو، والفجور والتقوى، والفلاح والخيبة، والتزكية والتدسية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال ابن القيم:

سورة الشمس:
قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}
والمعنى قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله وأصل التدسية الاخفاء منه قوله تعالى يدسه في التراب فالعاصي يدس نفسه في المعصية ويخفي مكانها ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به قد انقمع عند نفسه وانقمع عند الله وانقمع عند الخلق فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاء وأعلاه ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو فما صغر النفس مثل معصية الله وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
فصل:
ومن عقوباتها أن العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه فهو أسير مسجون مقيد ولا أسير أسوء حال من أسير من أسير أسره أعدى عدوله ولا سجن أضيق من سجن الهوى ولا قيد أصعب من قيد الشهوة فكيف يسير الى الله والدار الآخرة قلب ماسور مسجون مقيد وكيف يخطو خطوة واحدة وإذا تقيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ومثل القلب الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل استوحشه الآفات وفي الحديث الشيطان ذئب الانسان وكما أن الشاة التي لا حافظ لها وهي بين الذئاب سريعة العطب فكذا العبد إذا لم يكن عليه حافظ من الله فذئبه مفترسه ولابد وإنما يكون عليه حافظ من الله بالتقوى فهي وقاية وجنة حصينة بينه وبين ذئبه كما هي وقاية بينه وبين عقوبات الدنيا والآخرة وكلما كانت الشاة أقرب من الراعى كانت أسلم من الذئب وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب الى الهلاك فاحمي ما تكون الشاة إذا قربت من الراعى وإنما يأخذ الذئب القاصي من الغنم وهي أبعدهن من الراعي وأصل هذا كله إن القلب كلما كان أبعد من الله كانت الآفات اليه أسرع وكلما كان أقرب من الله بعدت عنه الآفات والبعد من الله مراتب بعضها أشد من بعض فالغفلة تبعد العبد عن الله وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها}
يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب وقد جاءت آيات كثيرة تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقوله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} ونحو ذلك.
وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية.
وأما القدرية: فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا عن غير تأثير لقدرة الله فيه.
وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به.
وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى.
فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب.
ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل وإني لابد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي فأنا مجبور فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك جعل لك سمعا تسمع به وبصراً تبصر به وعقلا تعقل به وأرسل لك رسولا وجعل لك اختيارا وقدرة ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض إن أعطاه ففضل وإن منعه فعدل كما أشار له تعالى بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
بمعنى أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق فمن أعطيه ففضل ومن منعه فعدل.
ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي؛ قال عبد الجبار سبحان من تنزه عن الفحشاء وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى على بالردى أتراه أحسن إلى أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء وإن كان له فإن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل فبهت عبد الجبار وقال الحاضرون والله ما لهذا جواب.
وجاء أعرابي إلى عمرو ابن عبيد وقال له ادع الله لي أن يرد على حمارة لي سرقت مني فقال اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه فقال له الأعرابي: يا هذا كف عني من دعائك الخبيث إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد.
وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأثبت للعبد مشيئة وصرح بأنه لا مشيئته للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا.
فكل شيء صادر من قدرته ومشيئته جلا وعلا.
وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال في الآية وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء.
والعلم عند الله تعالى. اهـ.